السبت، 7 يناير 2012

دراسات في تذوق الشعر: صور من بائية علقمة


في الشِّعرِ الجاهليِّ – حينَ يتوافرُ رادةُ الأدبِ على دَرسِهِ- إيحاءٌ فيَّاض،وصوَرٌ تموجُ بالإحساسِ،وتَمُورُ بالدَّفق، وَفيِ هذا ردٌّ علَى من يَرمُونَ الشِّعر الجاهليِّ بالجُمُودِ والماديَّة،وبخاصَّةٍ النُّقَّاد في العصرِ الحَديث.
وَبَائيةُ علقمةَ قصيدةٌ تنتهي قافيتُها بِحرفِ الباء،وهي وَاحِدةٌ مِن القَصائِد الجِياد،وَصَفَها النَّاقدُ العظيمُ محمَّد بن سلاَّم الجُمَحيُّ في كتابِه "طبَقات فحول الشعراء" مع قصيدتين أخريين بأنهن:"روائع جياد لايفوقهن شعر"،ومما نقله صاحب "الأغاني" :"أن قريشا حين سمعت بائية علقمة الفحل قالت:إنها" سمط الدهر" والسمط هو القلادة تزين بها الحسناء.
وسبب إنشاء علقمة "البائية" أن أخًا له يُدعَى "شأسا" أسر يوم عين أباغ.وكان يوم عين أباغ هذا معركة بين ملك الشأم الحارث ابن أبي شمر الغساني، وملك الحيرة المنذر ابن ماء السماء اللخمي،في شهر يونية من سنة 554م وانتصر الحارث وقتل المنذر، فنظم علقمة هذه القصيدة يتشفع بها لدى الحارث على عادة الشعراء العرب في التماس الشفاعات عند عظماء الرجال.
هذا،وقد استنتج العلامة عبدالله الطيب قيمة تاريخية من تأريخ يوم عين أباغ وهي أن علقمة بن عَبَدة وامرأ القيس ومعاصريهما كانوا من رجالات العرب في النِّصف الأوَّل من القرن السَّادس الميلاديِّ لأنَّ تأريخ يوم عين أباغ مذكوٌر في أخبارِ دولة الرُّوم الشَّرقيَّة والله تعالى أعلم.
وعلقمة بن عَبَدة الفحل من شعراء الجاهليَّة المُقدَّمِين واسمه علقمة بن عَبَدة  بن النعمان بن قيس ،ينتهي نسبه إلى "ربيعة الجوع" من بني تميم ، وبنو تميم كانو من كبريات القبائل مساكنهم شرق الجزيرة العربية فيما بين نجد والعراق.
قال النسابون :"أخطأ ابن دريد في كتاب الاشتقاق  فجعل علقمة من ربيعة الصغرى بني مالك بن حنظلة،وهو من ربيعة الكبرى ،لأن الربائع من بني تميم أربعة:ربيعة الكبرى،وهو ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهو "ربيعة الجوع".وربيعة الوسطى وهو ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة.وربيعة الصغرى وهو ربيعة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة.
والرابعة ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة.
وعلقمة بن عبدة يقال له الفحل لأنه تزوج امراة امرئ القيس بعد أن طلقها زوجها لقصة أوردها النقاد ملخصها أنها قدمت علقمة في الشعر على زوجها فطلقها جزاء وفاقا لنقدها!!
تبتدئ بائية علقمة بقوله:
طحابك قلب في الحسان طروب
بعيد الصبا عصر حان مشيب
فإذا علمت أن كلمة( طحا)تعني طمح ،وطحا بك قلبك في الحب ذهب بك كل مذهب،أدركت أن عاطفة مؤججة في هذا البيت الذي نال براعة الاستهلال للقصيدة،وهذه أول بادرة ترد على القائلين بجمود الشعر القديم ،ولئن اتكأ بعضهم أن الألفاظ صعبة المعنى، عالية المرتقى ،حوشية الصورة كأنما هي مومياء محنطة فإن براعة القصيدة القديمة تكمن في أنها كانت ولاتزال ذروة الكلام العربي الذي يتكلم به عامة الناس في ذلك الدهر.وعسى الصورة أن تكون غير مكتملة إلا إذا أضفنا إليها مابعدها من أبيات:
يُكلِّفني لَيلَى وقد شَطَّ َوليُها
وعادت عواد بيننا وخطوب
منعمة لا يستطاع كلامها
على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
وترضى إياب البعل حين يؤوب
فلا تعدلي بيني وبين مُغَمَّرٍ
سقتك روايا المزن حين تصوب
سقاك يمان ذو حيي وعارض
تخف به جنح العشي جنوب
وكنايته عن المحبوبة باسم (ليلى)مندرج تحت دراسة الألفاظ وبنيويتها،ولو كان هم هذه الدراسة شرح (المعنى)لاستقصينا،لكن الصورة وأبعادها،والعبارة وظلالها ،وانثيال الخيال(الفكرة)من بين صخور الكلمات القوية قوة الصحراء،هو الذي ترومه هذه الدراسة.
أراد بشط وليها بعد قربها:والصورة هنا صورة الديار في قلب الصحراء تقرب حينا وتبعد،ومن حولها الصوىmile stones والآرام "ولا يزال أخو الصحراء يتلفت بقلبه إلى مكان إقامة تركه وراءه لما يشيمه من البروق،ولمايرى ويسمع من عزيف الريح وأصوات الجنان "وهاهنا الحنين إلى المكان وفيه من العاطفة ما لا يخفى.
وللمرأة في أدب الجاهلية مكانة مصونة رغم أن الشاعر يصرح بحالها،ويشبب بها ويكني عن شخصها باسم آخر له دلالته الشعورية لديه ووقعه الكيميائي في ذاته، ولعل هذا ماعناه عبد القاهر الجرجاني في" المثل السائر" حين يتكلم عن" المعنى" و"اللفظ":
منعمة لايستطاع طلابها
على بابها من أن تزار رقيب
والرقيب هاهنا حامي الحمى الذي به تشرف وعليه تعتمد،وهو بَعدُ الّذي زعم دعاة الشعوبية أن القصيدة القديمة خالية منه،والشاعر العربي ليس بطلا،وإنما هويتقمص دور البطل تقمصا:"وعندي- كما يقرر عبد الله الطيب في القصيدة المادحة- أن هذا الرأى غيرجد صائب ،هذا إذا أضربنا عما فيه من روح الشعوبية والتحامل على العرب".
والصورة ناطقة بقيمة الصون والجمال الذي يتقي سجية غير مفتعلة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد!
 وقد تحصنت ذات الحسن في دارها وربعها،وفي أوان غياب البعل وهو مظنة الريبة،وقد حمل هذا الصون الرقباء على خوف من زيارتها ،كقول الآخر:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء
إذ حيث كنت من الظلام ضياء
إن المنهج الذي نقرأ به الشعر القديم إنما يكون بإنصاف الشاعر الذي امتلأت جوانحه بالمعنى،يرن صداه في قلبه فيعبر عنه باللفظة التي "تملأ القلب والفم"،وهي بعد مملوءة بالتصاوير،مشحونة بالإحساس،مفعمة بالتفاعلات النفسانية،صورة ينشؤها الشاعر ويبقيها،ويخلدها الناقد الحصيف، فلاعجب أن تصير دواوين الأدب القديم من شعر ونقد،ونقد النقد كما يسميه النقاد حديثا :" ميتا نقد" ،علامات حية مرفرفة،لا تهزها دعوات الشعوبية،ولاادعاءات الجمود، ولاقالة المادية،لأن الأغراض الشعرية كالهجاء والمديح بناء- كما يقررابن قتيبة في الشعر والشعراء- في أوان سابق لبنائية سسيور الممجوجة.قال:"وليس كل بان بضرب بانيا بغيره"،وقوله هذا يؤخذ على سبيل الإجادة ،وإلا فإن من الأقدمين  من قال في الغزل والمديح،وفي الهجاء حينا آخر،إلاأنه يعد في أحد الأغراض دون غيره.
صورة أخرى نجدها في سياق أبيات علقمة الجزلة،وهي صورة تشابه "روايا المزن حين تصوب" بالعشي صوبا مدرارا نافعا في الظراب والآكام ومنابت الشجر،وانصباب دموع الشاعر من فرط الصبابة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر
سقته روايا المزن حين تصوب
سقاك يمان ذوحيي وعارض
تخف به جنح العشي جنوب
وهذا متكرر في الشعر القديم، قال غيلان بن عقبة(ذوالرمة):
أإن ترسمت من خرقاء منزلة
 ماء الصبابة من عينيك مسجوم
"فبكا وشكا- كما يقررابن قتيبة-وخاطب الربع،واستوقف الرفيق""فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة "،فانظر كيف يتمم الناقد الصورة ،ويعمق المعنى ويرصفه بكلام قوله فصل،فأي مادية وأي جمود يدعيه النقاد المناصرون للحداثة ومابعد الحداثةMODERNISM AND POST MOERNISMوللبنيوية ومابعدها،وللشاعرية ومابعدهاPOIETICS AND POST POIETICSوهي موجودة في كتب التراث العربي شعره ونقده؟
إن الظلم الذي حكم به النقاد الذين راموا انتصار المذاهب النقدية الحديثة التي لم تسلم من تعقيدات مجتمعات صناعية امتزجت فيها المعارف بفلسفات وعقائد بعيدة عن الذائقة العربية،وكان من أثرها أن تجمدت الشاعرية عندهم ، لظلم فادح ضرب صفحا عن التعقيد اللفظي والمعنوي في الشعرالحر أو النثري،فإذا استصحبنا كلام ابن قتيبة"وليس كل بان بضرب بانيا بغيره" في غرضين من أغراض الشعريتبدى لنا السؤال الذي يفرض ذاته:كيف تكون قصيدة؟وكيف تكون نثرا في آن واحد؟وقد استحال أن يكون الشاعر مجيدا في هجاء ومدح في آن؟
خلاصة القول:"إن الشعر القديم- المعلقات ومابعدها- شعر غاية في العلو من حيث الشاعرية ومن حيث عمق المعنى ودلالة اللفظة، لا من حيث علوها واستفالها فحسب - كما عند الجرجاني- وإنما من حيث موسيقاها وتطريبها مما يبعد تهمة الجمود والمادية عن القصيدة القديمة ويعطيها بعدا مفعما من التصوير الرائع ،كمشهد الآرام الراتعة، والينابيع الفائضة والغائضة تبعا للعاطفة في انقباضها وانبساطها،والنجوم الغائرة ترصع السماء في علوهمة ،كل أولئك في تصوير حسي ومعنوي،وآخر لفظي يجسد الشعور الطبيعي البسيط لشخصية العربي الذي ابتعد عن التعقيد ونفر منه طبعه القويم المملوء جمالا ونخوة وإباء:
تتبع أفياء الظلال عشية
على طرق كأنهن سبوب
هداني إليك الفرقدان ولاحب
له فوق أصواء المتان علوب
بها جيف الحسرى فأما عظامها
 فبيض،وأما جلدها فصليب
وقد فخر الفرزدق بعلقمة الفحل فقال:
والفحل علقمة الذي كانت له
حلل الملوك كلامه لا ينحل
نشرت بالملف الثقاقي جريدة الصحافة بتاريخ الثلاثاء21يوليو تموز2009م،وأرسلت إلى مجلة العربي الكويتية ولم تنشر،لكن المضوع أثار حفيظة الناقد الكبير جابرعصفور فكتب تعليقا علي كلامنا دون تصريح ،يؤيد فكرته الثابتة التي بثها في مقالاته وجمعتها المجلة في كتاب العربي بعنوان غواية التراث.والحق أن فكرة الحداثة موضوع كبير يحتاج إلى تمحيص ومن أحسن ما قرأت في هذا المجال الكتاب الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة - التي تصدر من الكويت - لعبد العزيز حمودة بعنوان "المرايا المحدبة".












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق