الاثنين، 9 يناير 2012

التاسع من يناير زفرة الجنوب الأخيرة

التاسع من يناير زفرة الجنوب الأخيرة
هل تراني مغاليا في هذا العنوان الذي هو على نمط عنوان كتاب أسباني(زفرة العربي الأخيرة)الواصف لأبي عبدالله الزَّغْل آخر ملوك الأندلس وهو يودّع( الفردوس المفقود) ويجترّ المرارات القاتلة والدمع السخين يسيل على خده التاعس الأسيف؟
كان الزغل مترفا مفرِّطا ،وهو مولّد من امرأة من الفرنجة، وهي سياسة انتهجها النصارى(تزويج رجالات قصر بني الأحمر في أشبيلية بنصرانيات إفرنجيّات) لإيجاد جيل غير مكترث بقضاياه،ولهذا قالت له أمُّه الكلمة المشهورة :"لا تبك  كالنساء على مُلْك لم تحفظه كالرجال".!!
ليس من الغلوّ في شيئ أن تتداعى الأحزان على بلد لا يحسن إلا صناعة الأزمات لنفسه،واجترارالمآزق لذاته، ويقتطع من لحم جسده ليأكله الذباب وإن شئت فقل الكلاب!!
ذهب الجنوب بخضرته اليانعة وجسده الغض وزيته الوفير،ذهب تاركا الناس تتناوشهم النزاعات في أبيي، وشراء ذمم أبناء قبيلةالمسيرية الأعزاء وشقّ عصا وحدتهم ،والمترفون يتلمَّظون لقطرات رقرا قة من نفط الحياة تعبُر الأرض البلقع اليباب تنتظرجُباةَ السوء وهم  ُيودِعُونَ في جُيوبِهم الكظيظةِ وأرقام حسابم المثقلة حصيلة كدِّ السوداني وهو يترنَّح تلهبه سياطِ الجُوع تأكل عظامَه الواهنة،ولفحات من نار الحرب تلفح وجهه دون جريرة،بل أورثته جريحا من أهله تعذَّر برؤه أوشهيدا لم يزل يبذر في الأرض بذور الذكريات!!.
أبدا ما هانت جوبا علينا ولا رمبيك:"وأسبح في النيل العريض،ومات ابن زيدون حزينا ،وقال أبوالطيب العبقري :"إن الهوى كله فاسد"!!:
وَحَقِّ الهَوَى مَا حِلْتُ يَوْمًا عَنِ الهَوَى
وَلكنَّ نَجْمِي في المَحبَّة قَد هَوَى
وَمَنْ كنتُ أرجُو َوصْلَه قتَلَني نَوَىً
وَأضْنَى فُؤادِي بالقَطِيعَةِ والنَّوَى
ليْسَ في الهوَى عَجَبٌ
إذْ أصَابَني النََصَبُ
حامِلُ الهَوَى تَعِبٌ
َيسْتَفِزُّه الطَربُ
أخُو الحُبِّ لا َينْفكُّ إلاَّ مُتيََما
غَريقَ دموعِ قلبهِ يشتكي الظَّما
لِفَرْطِ البُكا قَدْ صَارَ جِلْداً وَأعْظُمَا
فلَا َعَجَبَ أنْ يَمْزِجَ الدَّمْعَ بالدَّمَا!
الغَرامُ أنْحَلَهْ
إِذ أصَابَ مَقْتَلَهْ
إنْ بَكا يَحِقُّ لَهْ
ليسَ مابهِ لَعِبُ
إن لم تخنِّي الذاكرة في حفظ موشَّح صفيِّ الدين الحِلِّيِّ الأندلسيِّ.(كان جنوبيا هواها)!!
لم يكتمل الهلال ،ذهب الجنوب والذين أضاعوه أرادوا أن يقولوا للتاريخ"الحمدلله الذي أراحنا منه"بل قدقالوا(يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) (وهمّوا بما لم ينالوا) !!
في ذكرى ذهابه الأولى يذهب الجنوب إلى إسرائيل،ويسوء الذين أضاعوه أن يتهوّد،وماساءهم أنه يتضوّر صياما طال وصاله ولقد كان على الفطرة فمن الذي- ياترى- هوَّده؟ أليس هو الذي وضعه على كفّة خيار الانفصال وأذاق أبناءه سوء المعاملة فكان الانفصال بمثابة صك التحريرإلى غير رجعة"نحن الليلة اتحررنا"قالها باقان في يوم الانفصال!!.
ذهب الجنوب والسياسيون يحلو لهم أن يقطعوا حبال الوصال حتى يكاد أن ينهدم البناء وتتقوض تجربة المعارضة التي يراد لها الشتات ويخر السقف فوق القواعد فمن ذا الذي يفيد من هذا المشهد غير سلطة جاثمة تريد أن تبتلع كل شيئ الصيف والشتاء والربيع !!!
هل يسمعون؟
صخب الرعود؟
صخب الملايين الجياع ؟
ستعودأفريقيا لنا
قد لا تدرك المعارضة مدى أهمية أن تكون معارضة  ذات خطة جادة وقوية  في ساحة السياسة ليتم الوزن والتوازن، ويستقيم الرويّ و القافية،وعبثا تحاول السلطة أن تلغي المعارضة تارة بالاحتواء الذي هو فرِّق تسد،وتارة أخرى بالتهميش العمد الذي لا يجلب إلا الاحتدام والاحتراب والكيد،ومابقي من مساحة المليون المنهوب المشوَّه لايفي بهذا،ولايحتمل المزيد.
ذهب الجنوب والخطى في مجال التنمية تزداد تعثُّرا وشعار الشريعة يغدو أكذوبة مضحكة، والحريات مكبّلة مرصودة يُرادُ لها السكوت حتى من الذين تزعم السلطة أنها تحبهم من الزعامات المعتبرة:"ياسيد الصادق بس كلام كلام"لست أدري لماذا يريدون له السكوت،والإمام كلامه يكاد يكون نظما.
قال أبوالطيب:
وَمِنْ نَكَِدالدُّنيا عَلَى الفَتى أنْ تَرَى
عدوَّاً لك مَامِنْ صَداقَتِهِ بُدُّ

ذهب الجنوب وأحسن صديقي الصحافي " بهرام"بصحيفة السوداني أمس الأحد8يناير 2012حين أجرى حواره مع الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي السيد كمال عمربعدما أوقفت صحيفته (رأى الشعب) واعتقل من حزبه قادة كبار،وأحسن كمال غاية الإحسان لولا أنه نعى على الإمام منصب ابنيه،وهما سودانيان لايعيبهما أنهما تقلدا المنصب،وحتى لولم يكونا في صفوف المعارضة لا يُجَرَّمُ السِّيد الإمام بهذا،والمهم أيها السيد الكريم كمال ألا تفقد المعارضة الثقة في أشخاصها وأن تعمد إلى تنسيق جاد هدفه مصلحة البلاد" وليس كل معارض عدوّا خائنا أيتها الحكومة"!
ذهب الجنوب والحركة الشعبية تصول وتجول لتنال جنوبا آخر ينفك من الجسم الكبير فمن ذا الذي يرجع الحركة إلى الشمال بعدما أبعدتها عداوات صناع العداوات؟،ولو أن السلطة قرأتها باعتبارها رؤية سودانية تقع في فدان التنوع الفكري والثقافي لكان الأمر غير مانحن فيه من مهدد صهيوني واقتسام لثروة ما كان لها أن تذهب لولا رعونات صناع العداوات.
ذهب الجنوب والنيل الأـزرق ملف يستعصي؛وقد عاد كما كان  بالأمس القريب مهوى النزاع وبؤرة الحرب لأن الفالحين صناع العداوات حوّلوا القضية إلى ملف فردي اسمه (مالك عقار)،فلماخرج عقار ظنوه انتصارا والموضوع لا يعدو أن يكون زيتا  صب على نار زاد ت البلاد تأزما على أزماتها.
سنة تولي على ذهاب الجنوب،والنار ليست في الحروب وحدها ،وإنما في السوق أيضا فمن ذا الذي يجلى النظر ويعيده كرتين،ليرى حال الأسر الضعيفة أو الأشد فقرا أو سمّها ماشئت لترى كم هو بديع مصطلح التنمية المستدامة والوفرة والرفاهية إذا قارنته بمنظر إنسان السودان المترقب للربيع العربي  يهب في أرجائنا في حالة من الوسن الذي وصفه المتنبي وأيده شاعر الحقيبة؛قال أبوالطيب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
 بالأخرى المنايا فهو يقظان نائم
منظر الإنسان الطرفو نايم وصاحي !!
ذهب الجنوب وشباب بلادي ممن تخرجو في الجامعات ينتظرهم المستقبل المجهول فلا توظيف ولا استقرار وأنما الحلقة المرغة التي اصطلح الشباب على تسميتها ب(شركة لافي التجارية) وما( لافيّ) هذا إلا وصف للدوران واللف حول المجهول وهو العطالة المقنعةعن العمل،فاقرأ في دفتر الإنجاز عن الزلفى والوساطات والجهويات والختراقات لا على مستوى المؤسسات أو الجامعات،وإنما على مستوى الفرد بالتأثير عليه بالسحر والمخرقة والدجل والشعوذة فمن ذا الذي ينتظر الشريعة أو النماء في ظل هذه الطغمة الحاسدة التي تسرق الإرادة والإبداع وكل جميل يصدر عن انسان بلادي المسلوبة إرادته؟؟ 

                                                                                                ذهب الجنوب وحق لدموع العاشقين أن تنهمر:

 لعل انهمار الدمع يعقب راحة
من الوجد أو يشفي نجي البلابل

السبت، 7 يناير 2012

ي عالَم النَّقد: كافكا.. أو منافي الذَّات (أعيدوا أعمال كافكا من منفاها.. الكاتب النمساوي آرنست فيشر)


ليس للمعرفة حدودا،وتراث الإنسانية أكبر من أن يحصر في مدرسة أو تيار،والأدب عالم رحب بلا نهاية،ولربما كان الأجدربنا أن نكتب عن أديب من بني جلدتنا،يتكلم بلساننا،ويكتب عن همومنا،ويحفزمن همتنا،ولكن كافكا أنموذج للأديب القلق المحبوس في منفاه أو هو "المنحبس في منافيه"اختيارا، وفي الكتابة عنه لفتات تدعو إلى الانطلاق من منافينا المعيقة،والانفكاك من عبوسنا المكفهر،والانفلات من ربقة اضطرابنا وهواجسنا وليس كافكا- كما أحسست بعد معر فته لأول مرة- بالأديب ذي الشأن الخطير في كل أوربا على  الأقل في بداية شبابه،ولا في بلاده "تشيكوسلوفاكيا" فقد كانت براغ -عاصمتها وجامعتها- مدينة أدب وقبلة فكر وثقافة،وليس باستطاعة كاتب أومؤرخ أن يتجاوز مدرسة" براغ" في درس البنائية التي كان فردناند دي سسيور من أقطابها.
  قلّ أن تجد لكافكا كتابا مطبوعا باسمه  الآن،لأن أعماله على كثرتها، فهي مابين متفرِّق لم يُجمع،أوناقصٍ لم يكتمل  ،أمَا التي أكملها فهي لم تجد إلينا سبيلا لضعف مجهود مثقفينا في ترجمة الأجنبي وطباعتة خوفا من كساده في سوق الكتاب التي لم تعد رائجة .
وممَّا دفع للكتابة عن فرانتس كافكا أنّه من الأدباء القلائل الذين عبَّروا عن جدوى التعبير الفنيِّ ليس فقط باعتباره انتاجا يجد حظه من المدح أو القدح،ولكن كاتجاه نقدي يعبِّر عن روح جديد في النقد أكثر إمعانا في المنهجيّة القائمة على حياديَّة المعرفة أوَّلا،ثمَّ على إعمال الذَّائقة الحسيَّة قبل الإيغال في التقعيد الإبستمولوجي.
ثم ممَّا دفع إلى الكتابة عن كافكا أنه من الذين نبَّهوا إلى أنّ القلق يمكن أن يكون وحده باعثا للإنتاج الوفير والرَّصين معا،ليس كما هو معروف لدى أدبائنا أنَّ القلق مُقعِد ومُفضٍ إلى احتراقٍ عدميٍّ يقتل الإبداع بدواخلهم النابضة،ومن أدبائنا العرب الذين نبَّهوا- أيضا- إلى أنّ القلق باعثٌ للإبداع؛ الشاعر التونسي يوسف رزُّوقة بقوله في حوارأجري معه بمجلَّة الدَّوحة القطريَّة أواخر الثمانينات:"الزمنُ القلقُ يلدُ شاعرا قلقا".وتلاحظ أنَّ كلمة( يلد )تُشعربالحياة والأمل.
 كان  فرانتس كافكا(1883-1924م)اشتراكيا في أول شبابه،استهواه مبدأ العدالة، وكان ناشطا جدا في النادي الاشتراكي ببراغ، وكان ممن يتلقون المحاضرات على تلاميذ فرانتس برتنانو الذين ركزوا برنامجهم الثقافي في جامعة براغ،وهم كراوس ومارتي وألفرد كاستل،وقد كان أستاذهم برتنانو يقسِّم الظواهر النفسانيّة إلى مجموعاتٍ ثلاث:تصوُّرات،وأحكام، وانفعالات،ولكن بالرغم من هذا لم يكن لكافكا تكوينٌ فلسفيٌّ في مذهبٍ متكاملٍ يُعرف به أويُنسب إليه.
وإذا تناولنا بالتحليل والدراسة سمة"الذاتية" في أدب كافكا نجدها نابعة من معاناته صغيرا يافعا،ثم من تنقاله أيام صباه،وهجره براغ هجرة وصلت إلى درجة اللعن،حيث سماها" المدينة الملعونة"،ثم من انعزاله بعد فقدانه الثقة في الناس،لذلك لم يجد أكثر الكاتبين عنه أثرا واضحا من مدرسة فلسفية،وإن كان هو من المؤيدين لمذهب شوبنهورالقائل "بالعدمية"،وأن الأدب هو الذي يرسم الحياة،ويتغلب على العدم واليأس "كما كان ينادي بها "نيتشه"الفيلسوف الألماني المعروف، وقد سيطرت هذه الفلسفة على أفكار الناس أواخر القرن التاسع عشرومطلع القرن العشرين.
كان انعزال كافكا باعثا من بواعث إبداعه،ولهذا جاءت قصصُه كأنَّها خارجةٌ من فوهة أحلامٍ بعيدةٍ عن نداوة السَّرد،وإمتاع الذاكرة المنهوبة والحاضرة معا!!
ولقد كان يبحث عن عالم فيه العدالة المطلقة،كما في قصّته "القضيَّة"التي كتبها عام 1914م ولم يكملها حتى وفاته،وهي قصة فيها تشاؤم نسبيّ يأخذك إلى التفاؤل من بعد!!
وعلى الرغم من اعتناق  كافكا القلق وما يسببه من غموض،إلا أن الواقعيّة تبدو واضحةً في أعماله و هذا من الغرائب ،لكن عصر كافكا كان مليئا بالدمويّة التي مثلتها الحربان الكونيّتان كأشد ماتكون القسوة والدموية، ثم إن سمة القلق التي ثبّتناها أولا تحدث عنها هو بنفسه لدرجة أنه كان يهرب من تجارب عاطفية صرّح بصدقه فيها،ثم لإطباق المرض الصدري عليه،كل أولئك جعل من أسلوبه المشحون بالتشاؤم الآخذ في طريقه إلى دنيا الأحلام الباحثة عن العدالة المطلقة نوعا من الواقعيّة الصارمة التي تجعل من يبحث عن مكامن الإبداع في قصص اليهوديّ كافكا يرجع البصر كرّتين ليجد إنسانا آخر في كافكا غير ما كتب عنه كثيرون وأفادوا أنه عُرف بعد موته أكثر من معرفة النّاس به أيام حياته وهذه شجونٌ تطول.
 بقي القول إن تعدد المنافي في الهرم القصصي لدى كافكا كمنفى العزلة ومنفى المرض،ومنفى الهروب من المحبوب ربما لإحساسه في - اللاوعي - بعدميّة الحياة واقتراب الأجل،ومنفى العدالة المنعدمة واقعا- تعدد المنافي هذا يجعل من إبداع كافكا مذهبا جديدا خليقا بالدراسة،والتساؤل:هل من تشابه بين منافي كافكا ومنفى الشاعرالعراقي عبد الوهاب البيَّاتي الذي سمَّاه "المنفى الملكوت "؟؟  وبخاصة إذا أدركنا أن البيَّاتي به مسحة إشتراكيَّة يشترك بها مع كافكا،وأنَّه أيضا صاحب فلسفة تمتُّ لابن عربي رائدا للبيَّاتي بل معشوقا أوصى البياتي- وقدكان- أن يُدفن بقرب لحده عند سفح جبل قاسيون بالشام:
أحمل قاسيون
غزالة تعدو
خلف القمر الأخضر في الديجور
يقول البيّاتي في كلمته (أولد وأحترق بحبي المنشورة ضمن مجموعته الشعريه حبٌّ تحت الأمطار (LOVE UNDER THE RAIN)التي ترجمها إلى الإنجليزيَّة الإعلاميُّ الرَّاحل جورج مصري مذيع بي بي سي المعروف):
تستيقظ لارا في ذاكرتي قطًّا تتريًّا
 يتربّصُ بي
يتمطّى،يتثاءبُ
يخدّش وجهيَ المحمومَ
 ويحرمُني النَّومَ
أراها في قاعِ جحيمِ المدنِ القطبيّة
تشنقُني بضفائرها
 وتعلّقني مثلَ الأرنبِ فوق الحائط
مشدودا في خيطِ دموعي أصرخُ:لارا
فتُجيب الريحُ المذعورةُ:لارا
إلى أن يقول في آخرها:
 قلبُ العالَم من حجرٍ في هذا المنفَى الملكوت
في إشارة إلى قسوة التتر في حربهم على بغداد بقيادة هولاكو التي تشابه قسوة الحربين العالميتين وبخاصَّة على العالم العربيّ.ولايفوتنَّك كلمة( أُولَد)المشعِرة بالحيَاة والأمل .
___________________________
نُشرت هذه الدراسة في الملفّ الثقافيّ بجريدة الصّحافة العدد(4724)بتاريخ الثلاثاء 7رجب1427هـ،الموافق للأوّل من أغسطس آب 2006م..وقد أضفت لها بعض التوضيحات هنا إزالة للإبهام في المقارنة بين كافكا والبياتي الّذي نُشر حينها.



قصة قصيرة :المثابر


أيقنتُ أنَّ اليومَ سيمرُّ دونَ استطاعتي  مباشرةَ عملي بِمكتبِ الشَّركة، الجوُّ مطيرٌ،والسَّماءُ ملبَّدةٌ بالغُيُوم الثِّقال المُنذِرةِ بالمزيدِ مِن المَطَر،سيارتي "الصَّالون" تًكادُ تَغرقُ مِن أَسفلِ إطاراتِهَا إلى عند أبوابها..الطريقُ الترابيّ العسوف المؤدي إلى الإسفلتي لا يجرؤ الخائضون على خوضه فقد تحول إلى مجرى للمياه!!
عَلَى مَكتبِي بالشَّركة مَلَفاتٌ كثيرةٌ تحتاجُ إلى إجراءِ تصاديقَ،ظلَّت مكدَّسة وأصحابها ينتظرون،والمطر لا يزال مانعا من إنجاز العمل..هاتفي السيار مليئ بمكالمات الطالبين من أصحاب الملفات،مكالمة فائتة تتبعها أخرى.
خرجت لا ألوي على شيئ لأجد المارة خائضين غير آبهين بالمطر وقد علق بملابسهم طين لايخفى .
وصلت مكتبي وانهمكت في العمل،ملف في إثر ملف حتى أتيت على آخرها.
توقف المطر، فما اكفهرت السماء ولاسحَّت ولا قالت،بل باتت عصيَّة الدمع صافية الأديم،وتوقف سيل المكالمات فلا جرسٌ يرنّ ولا رسالةٌ ترد،وازداد يقيني أنه بمقدور الإنسان أن يُنجز ما دام عزمُه لا يني ونشاطُه لا يَهمُد!
   حين قفلت راجعا إلى بيتي ألفيته قد انهدم جانبه،باب يقف بلا حائط ،وغرفة قد خرَّ سقفُها فوقَ القواعد.
رنَّ هاتفي المحمول :
"أنا صاحب الملف رقم4،لا أريد موقعا وسط الحي، الخارطة تشمل متجرا يحتاج إلى موقع ركنيِّ تهوي إليه أفئدةُ الزَّبائن..غدا سآتي برفقة المهندس المسَّاح وسأشرع في البناء مباشرة."
صرخت في وجه المكالمة:"ولكن بيتي قد تهدّم ألاتفهمون؟!جرفه المطر ألا تسمعون؟!
سيارتي..أين سيارتي الصالون؟أهي تلك التي أراها أمامي وقد اندسَّ جزؤُها الأماميُّ في حفرة عميقة مما يسمِّيه أهلنا في الشمال ب "الكَرَكيَّة"؟
وجزؤها الأخير مرتفع إلى أعلى كأنما هي نبتة نماها المطرأو هي طفلة أفزعها الرعد فدسَّت وجهَهَا!!
تملَّكتني الحيرةُ ،جلستُ على تلَّة عالية من الرَّمل الخَرَصانيّ.
مِن عَلَى بُعدٍ سمعتُ هاتفي يرنُّ..يرنُّ وهو غارق في الماء.
لا سبيل إلى اللَّحاق به، فقد قذفتُ به في المياهِ ضَجَرا  فغطس وما انفك يرنُّ حتى صَحَلَ صوتُه وسكَتَ..وما سكتَ عنِّي الغضَبُ.!!
________________________________
كُتبت بالمستشفى الأحد:23/1/2011حين كان السيد الوالد ماكثا بمستشفى السلاح الطبي في الفترة من6/1إلى26/1/2011م.




دراسات في تذوق الشعر: صور من بائية علقمة


في الشِّعرِ الجاهليِّ – حينَ يتوافرُ رادةُ الأدبِ على دَرسِهِ- إيحاءٌ فيَّاض،وصوَرٌ تموجُ بالإحساسِ،وتَمُورُ بالدَّفق، وَفيِ هذا ردٌّ علَى من يَرمُونَ الشِّعر الجاهليِّ بالجُمُودِ والماديَّة،وبخاصَّةٍ النُّقَّاد في العصرِ الحَديث.
وَبَائيةُ علقمةَ قصيدةٌ تنتهي قافيتُها بِحرفِ الباء،وهي وَاحِدةٌ مِن القَصائِد الجِياد،وَصَفَها النَّاقدُ العظيمُ محمَّد بن سلاَّم الجُمَحيُّ في كتابِه "طبَقات فحول الشعراء" مع قصيدتين أخريين بأنهن:"روائع جياد لايفوقهن شعر"،ومما نقله صاحب "الأغاني" :"أن قريشا حين سمعت بائية علقمة الفحل قالت:إنها" سمط الدهر" والسمط هو القلادة تزين بها الحسناء.
وسبب إنشاء علقمة "البائية" أن أخًا له يُدعَى "شأسا" أسر يوم عين أباغ.وكان يوم عين أباغ هذا معركة بين ملك الشأم الحارث ابن أبي شمر الغساني، وملك الحيرة المنذر ابن ماء السماء اللخمي،في شهر يونية من سنة 554م وانتصر الحارث وقتل المنذر، فنظم علقمة هذه القصيدة يتشفع بها لدى الحارث على عادة الشعراء العرب في التماس الشفاعات عند عظماء الرجال.
هذا،وقد استنتج العلامة عبدالله الطيب قيمة تاريخية من تأريخ يوم عين أباغ وهي أن علقمة بن عَبَدة وامرأ القيس ومعاصريهما كانوا من رجالات العرب في النِّصف الأوَّل من القرن السَّادس الميلاديِّ لأنَّ تأريخ يوم عين أباغ مذكوٌر في أخبارِ دولة الرُّوم الشَّرقيَّة والله تعالى أعلم.
وعلقمة بن عَبَدة الفحل من شعراء الجاهليَّة المُقدَّمِين واسمه علقمة بن عَبَدة  بن النعمان بن قيس ،ينتهي نسبه إلى "ربيعة الجوع" من بني تميم ، وبنو تميم كانو من كبريات القبائل مساكنهم شرق الجزيرة العربية فيما بين نجد والعراق.
قال النسابون :"أخطأ ابن دريد في كتاب الاشتقاق  فجعل علقمة من ربيعة الصغرى بني مالك بن حنظلة،وهو من ربيعة الكبرى ،لأن الربائع من بني تميم أربعة:ربيعة الكبرى،وهو ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهو "ربيعة الجوع".وربيعة الوسطى وهو ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة.وربيعة الصغرى وهو ربيعة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة.
والرابعة ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة.
وعلقمة بن عبدة يقال له الفحل لأنه تزوج امراة امرئ القيس بعد أن طلقها زوجها لقصة أوردها النقاد ملخصها أنها قدمت علقمة في الشعر على زوجها فطلقها جزاء وفاقا لنقدها!!
تبتدئ بائية علقمة بقوله:
طحابك قلب في الحسان طروب
بعيد الصبا عصر حان مشيب
فإذا علمت أن كلمة( طحا)تعني طمح ،وطحا بك قلبك في الحب ذهب بك كل مذهب،أدركت أن عاطفة مؤججة في هذا البيت الذي نال براعة الاستهلال للقصيدة،وهذه أول بادرة ترد على القائلين بجمود الشعر القديم ،ولئن اتكأ بعضهم أن الألفاظ صعبة المعنى، عالية المرتقى ،حوشية الصورة كأنما هي مومياء محنطة فإن براعة القصيدة القديمة تكمن في أنها كانت ولاتزال ذروة الكلام العربي الذي يتكلم به عامة الناس في ذلك الدهر.وعسى الصورة أن تكون غير مكتملة إلا إذا أضفنا إليها مابعدها من أبيات:
يُكلِّفني لَيلَى وقد شَطَّ َوليُها
وعادت عواد بيننا وخطوب
منعمة لا يستطاع كلامها
على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
وترضى إياب البعل حين يؤوب
فلا تعدلي بيني وبين مُغَمَّرٍ
سقتك روايا المزن حين تصوب
سقاك يمان ذو حيي وعارض
تخف به جنح العشي جنوب
وكنايته عن المحبوبة باسم (ليلى)مندرج تحت دراسة الألفاظ وبنيويتها،ولو كان هم هذه الدراسة شرح (المعنى)لاستقصينا،لكن الصورة وأبعادها،والعبارة وظلالها ،وانثيال الخيال(الفكرة)من بين صخور الكلمات القوية قوة الصحراء،هو الذي ترومه هذه الدراسة.
أراد بشط وليها بعد قربها:والصورة هنا صورة الديار في قلب الصحراء تقرب حينا وتبعد،ومن حولها الصوىmile stones والآرام "ولا يزال أخو الصحراء يتلفت بقلبه إلى مكان إقامة تركه وراءه لما يشيمه من البروق،ولمايرى ويسمع من عزيف الريح وأصوات الجنان "وهاهنا الحنين إلى المكان وفيه من العاطفة ما لا يخفى.
وللمرأة في أدب الجاهلية مكانة مصونة رغم أن الشاعر يصرح بحالها،ويشبب بها ويكني عن شخصها باسم آخر له دلالته الشعورية لديه ووقعه الكيميائي في ذاته، ولعل هذا ماعناه عبد القاهر الجرجاني في" المثل السائر" حين يتكلم عن" المعنى" و"اللفظ":
منعمة لايستطاع طلابها
على بابها من أن تزار رقيب
والرقيب هاهنا حامي الحمى الذي به تشرف وعليه تعتمد،وهو بَعدُ الّذي زعم دعاة الشعوبية أن القصيدة القديمة خالية منه،والشاعر العربي ليس بطلا،وإنما هويتقمص دور البطل تقمصا:"وعندي- كما يقرر عبد الله الطيب في القصيدة المادحة- أن هذا الرأى غيرجد صائب ،هذا إذا أضربنا عما فيه من روح الشعوبية والتحامل على العرب".
والصورة ناطقة بقيمة الصون والجمال الذي يتقي سجية غير مفتعلة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد!
 وقد تحصنت ذات الحسن في دارها وربعها،وفي أوان غياب البعل وهو مظنة الريبة،وقد حمل هذا الصون الرقباء على خوف من زيارتها ،كقول الآخر:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء
إذ حيث كنت من الظلام ضياء
إن المنهج الذي نقرأ به الشعر القديم إنما يكون بإنصاف الشاعر الذي امتلأت جوانحه بالمعنى،يرن صداه في قلبه فيعبر عنه باللفظة التي "تملأ القلب والفم"،وهي بعد مملوءة بالتصاوير،مشحونة بالإحساس،مفعمة بالتفاعلات النفسانية،صورة ينشؤها الشاعر ويبقيها،ويخلدها الناقد الحصيف، فلاعجب أن تصير دواوين الأدب القديم من شعر ونقد،ونقد النقد كما يسميه النقاد حديثا :" ميتا نقد" ،علامات حية مرفرفة،لا تهزها دعوات الشعوبية،ولاادعاءات الجمود، ولاقالة المادية،لأن الأغراض الشعرية كالهجاء والمديح بناء- كما يقررابن قتيبة في الشعر والشعراء- في أوان سابق لبنائية سسيور الممجوجة.قال:"وليس كل بان بضرب بانيا بغيره"،وقوله هذا يؤخذ على سبيل الإجادة ،وإلا فإن من الأقدمين  من قال في الغزل والمديح،وفي الهجاء حينا آخر،إلاأنه يعد في أحد الأغراض دون غيره.
صورة أخرى نجدها في سياق أبيات علقمة الجزلة،وهي صورة تشابه "روايا المزن حين تصوب" بالعشي صوبا مدرارا نافعا في الظراب والآكام ومنابت الشجر،وانصباب دموع الشاعر من فرط الصبابة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر
سقته روايا المزن حين تصوب
سقاك يمان ذوحيي وعارض
تخف به جنح العشي جنوب
وهذا متكرر في الشعر القديم، قال غيلان بن عقبة(ذوالرمة):
أإن ترسمت من خرقاء منزلة
 ماء الصبابة من عينيك مسجوم
"فبكا وشكا- كما يقررابن قتيبة-وخاطب الربع،واستوقف الرفيق""فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة "،فانظر كيف يتمم الناقد الصورة ،ويعمق المعنى ويرصفه بكلام قوله فصل،فأي مادية وأي جمود يدعيه النقاد المناصرون للحداثة ومابعد الحداثةMODERNISM AND POST MOERNISMوللبنيوية ومابعدها،وللشاعرية ومابعدهاPOIETICS AND POST POIETICSوهي موجودة في كتب التراث العربي شعره ونقده؟
إن الظلم الذي حكم به النقاد الذين راموا انتصار المذاهب النقدية الحديثة التي لم تسلم من تعقيدات مجتمعات صناعية امتزجت فيها المعارف بفلسفات وعقائد بعيدة عن الذائقة العربية،وكان من أثرها أن تجمدت الشاعرية عندهم ، لظلم فادح ضرب صفحا عن التعقيد اللفظي والمعنوي في الشعرالحر أو النثري،فإذا استصحبنا كلام ابن قتيبة"وليس كل بان بضرب بانيا بغيره" في غرضين من أغراض الشعريتبدى لنا السؤال الذي يفرض ذاته:كيف تكون قصيدة؟وكيف تكون نثرا في آن واحد؟وقد استحال أن يكون الشاعر مجيدا في هجاء ومدح في آن؟
خلاصة القول:"إن الشعر القديم- المعلقات ومابعدها- شعر غاية في العلو من حيث الشاعرية ومن حيث عمق المعنى ودلالة اللفظة، لا من حيث علوها واستفالها فحسب - كما عند الجرجاني- وإنما من حيث موسيقاها وتطريبها مما يبعد تهمة الجمود والمادية عن القصيدة القديمة ويعطيها بعدا مفعما من التصوير الرائع ،كمشهد الآرام الراتعة، والينابيع الفائضة والغائضة تبعا للعاطفة في انقباضها وانبساطها،والنجوم الغائرة ترصع السماء في علوهمة ،كل أولئك في تصوير حسي ومعنوي،وآخر لفظي يجسد الشعور الطبيعي البسيط لشخصية العربي الذي ابتعد عن التعقيد ونفر منه طبعه القويم المملوء جمالا ونخوة وإباء:
تتبع أفياء الظلال عشية
على طرق كأنهن سبوب
هداني إليك الفرقدان ولاحب
له فوق أصواء المتان علوب
بها جيف الحسرى فأما عظامها
 فبيض،وأما جلدها فصليب
وقد فخر الفرزدق بعلقمة الفحل فقال:
والفحل علقمة الذي كانت له
حلل الملوك كلامه لا ينحل
نشرت بالملف الثقاقي جريدة الصحافة بتاريخ الثلاثاء21يوليو تموز2009م،وأرسلت إلى مجلة العربي الكويتية ولم تنشر،لكن المضوع أثار حفيظة الناقد الكبير جابرعصفور فكتب تعليقا علي كلامنا دون تصريح ،يؤيد فكرته الثابتة التي بثها في مقالاته وجمعتها المجلة في كتاب العربي بعنوان غواية التراث.والحق أن فكرة الحداثة موضوع كبير يحتاج إلى تمحيص ومن أحسن ما قرأت في هذا المجال الكتاب الذي نشرته سلسلة عالم المعرفة - التي تصدر من الكويت - لعبد العزيز حمودة بعنوان "المرايا المحدبة".