السبت، 7 يناير 2012

ي عالَم النَّقد: كافكا.. أو منافي الذَّات (أعيدوا أعمال كافكا من منفاها.. الكاتب النمساوي آرنست فيشر)


ليس للمعرفة حدودا،وتراث الإنسانية أكبر من أن يحصر في مدرسة أو تيار،والأدب عالم رحب بلا نهاية،ولربما كان الأجدربنا أن نكتب عن أديب من بني جلدتنا،يتكلم بلساننا،ويكتب عن همومنا،ويحفزمن همتنا،ولكن كافكا أنموذج للأديب القلق المحبوس في منفاه أو هو "المنحبس في منافيه"اختيارا، وفي الكتابة عنه لفتات تدعو إلى الانطلاق من منافينا المعيقة،والانفكاك من عبوسنا المكفهر،والانفلات من ربقة اضطرابنا وهواجسنا وليس كافكا- كما أحسست بعد معر فته لأول مرة- بالأديب ذي الشأن الخطير في كل أوربا على  الأقل في بداية شبابه،ولا في بلاده "تشيكوسلوفاكيا" فقد كانت براغ -عاصمتها وجامعتها- مدينة أدب وقبلة فكر وثقافة،وليس باستطاعة كاتب أومؤرخ أن يتجاوز مدرسة" براغ" في درس البنائية التي كان فردناند دي سسيور من أقطابها.
  قلّ أن تجد لكافكا كتابا مطبوعا باسمه  الآن،لأن أعماله على كثرتها، فهي مابين متفرِّق لم يُجمع،أوناقصٍ لم يكتمل  ،أمَا التي أكملها فهي لم تجد إلينا سبيلا لضعف مجهود مثقفينا في ترجمة الأجنبي وطباعتة خوفا من كساده في سوق الكتاب التي لم تعد رائجة .
وممَّا دفع للكتابة عن فرانتس كافكا أنّه من الأدباء القلائل الذين عبَّروا عن جدوى التعبير الفنيِّ ليس فقط باعتباره انتاجا يجد حظه من المدح أو القدح،ولكن كاتجاه نقدي يعبِّر عن روح جديد في النقد أكثر إمعانا في المنهجيّة القائمة على حياديَّة المعرفة أوَّلا،ثمَّ على إعمال الذَّائقة الحسيَّة قبل الإيغال في التقعيد الإبستمولوجي.
ثم ممَّا دفع إلى الكتابة عن كافكا أنه من الذين نبَّهوا إلى أنّ القلق يمكن أن يكون وحده باعثا للإنتاج الوفير والرَّصين معا،ليس كما هو معروف لدى أدبائنا أنَّ القلق مُقعِد ومُفضٍ إلى احتراقٍ عدميٍّ يقتل الإبداع بدواخلهم النابضة،ومن أدبائنا العرب الذين نبَّهوا- أيضا- إلى أنّ القلق باعثٌ للإبداع؛ الشاعر التونسي يوسف رزُّوقة بقوله في حوارأجري معه بمجلَّة الدَّوحة القطريَّة أواخر الثمانينات:"الزمنُ القلقُ يلدُ شاعرا قلقا".وتلاحظ أنَّ كلمة( يلد )تُشعربالحياة والأمل.
 كان  فرانتس كافكا(1883-1924م)اشتراكيا في أول شبابه،استهواه مبدأ العدالة، وكان ناشطا جدا في النادي الاشتراكي ببراغ، وكان ممن يتلقون المحاضرات على تلاميذ فرانتس برتنانو الذين ركزوا برنامجهم الثقافي في جامعة براغ،وهم كراوس ومارتي وألفرد كاستل،وقد كان أستاذهم برتنانو يقسِّم الظواهر النفسانيّة إلى مجموعاتٍ ثلاث:تصوُّرات،وأحكام، وانفعالات،ولكن بالرغم من هذا لم يكن لكافكا تكوينٌ فلسفيٌّ في مذهبٍ متكاملٍ يُعرف به أويُنسب إليه.
وإذا تناولنا بالتحليل والدراسة سمة"الذاتية" في أدب كافكا نجدها نابعة من معاناته صغيرا يافعا،ثم من تنقاله أيام صباه،وهجره براغ هجرة وصلت إلى درجة اللعن،حيث سماها" المدينة الملعونة"،ثم من انعزاله بعد فقدانه الثقة في الناس،لذلك لم يجد أكثر الكاتبين عنه أثرا واضحا من مدرسة فلسفية،وإن كان هو من المؤيدين لمذهب شوبنهورالقائل "بالعدمية"،وأن الأدب هو الذي يرسم الحياة،ويتغلب على العدم واليأس "كما كان ينادي بها "نيتشه"الفيلسوف الألماني المعروف، وقد سيطرت هذه الفلسفة على أفكار الناس أواخر القرن التاسع عشرومطلع القرن العشرين.
كان انعزال كافكا باعثا من بواعث إبداعه،ولهذا جاءت قصصُه كأنَّها خارجةٌ من فوهة أحلامٍ بعيدةٍ عن نداوة السَّرد،وإمتاع الذاكرة المنهوبة والحاضرة معا!!
ولقد كان يبحث عن عالم فيه العدالة المطلقة،كما في قصّته "القضيَّة"التي كتبها عام 1914م ولم يكملها حتى وفاته،وهي قصة فيها تشاؤم نسبيّ يأخذك إلى التفاؤل من بعد!!
وعلى الرغم من اعتناق  كافكا القلق وما يسببه من غموض،إلا أن الواقعيّة تبدو واضحةً في أعماله و هذا من الغرائب ،لكن عصر كافكا كان مليئا بالدمويّة التي مثلتها الحربان الكونيّتان كأشد ماتكون القسوة والدموية، ثم إن سمة القلق التي ثبّتناها أولا تحدث عنها هو بنفسه لدرجة أنه كان يهرب من تجارب عاطفية صرّح بصدقه فيها،ثم لإطباق المرض الصدري عليه،كل أولئك جعل من أسلوبه المشحون بالتشاؤم الآخذ في طريقه إلى دنيا الأحلام الباحثة عن العدالة المطلقة نوعا من الواقعيّة الصارمة التي تجعل من يبحث عن مكامن الإبداع في قصص اليهوديّ كافكا يرجع البصر كرّتين ليجد إنسانا آخر في كافكا غير ما كتب عنه كثيرون وأفادوا أنه عُرف بعد موته أكثر من معرفة النّاس به أيام حياته وهذه شجونٌ تطول.
 بقي القول إن تعدد المنافي في الهرم القصصي لدى كافكا كمنفى العزلة ومنفى المرض،ومنفى الهروب من المحبوب ربما لإحساسه في - اللاوعي - بعدميّة الحياة واقتراب الأجل،ومنفى العدالة المنعدمة واقعا- تعدد المنافي هذا يجعل من إبداع كافكا مذهبا جديدا خليقا بالدراسة،والتساؤل:هل من تشابه بين منافي كافكا ومنفى الشاعرالعراقي عبد الوهاب البيَّاتي الذي سمَّاه "المنفى الملكوت "؟؟  وبخاصة إذا أدركنا أن البيَّاتي به مسحة إشتراكيَّة يشترك بها مع كافكا،وأنَّه أيضا صاحب فلسفة تمتُّ لابن عربي رائدا للبيَّاتي بل معشوقا أوصى البياتي- وقدكان- أن يُدفن بقرب لحده عند سفح جبل قاسيون بالشام:
أحمل قاسيون
غزالة تعدو
خلف القمر الأخضر في الديجور
يقول البيّاتي في كلمته (أولد وأحترق بحبي المنشورة ضمن مجموعته الشعريه حبٌّ تحت الأمطار (LOVE UNDER THE RAIN)التي ترجمها إلى الإنجليزيَّة الإعلاميُّ الرَّاحل جورج مصري مذيع بي بي سي المعروف):
تستيقظ لارا في ذاكرتي قطًّا تتريًّا
 يتربّصُ بي
يتمطّى،يتثاءبُ
يخدّش وجهيَ المحمومَ
 ويحرمُني النَّومَ
أراها في قاعِ جحيمِ المدنِ القطبيّة
تشنقُني بضفائرها
 وتعلّقني مثلَ الأرنبِ فوق الحائط
مشدودا في خيطِ دموعي أصرخُ:لارا
فتُجيب الريحُ المذعورةُ:لارا
إلى أن يقول في آخرها:
 قلبُ العالَم من حجرٍ في هذا المنفَى الملكوت
في إشارة إلى قسوة التتر في حربهم على بغداد بقيادة هولاكو التي تشابه قسوة الحربين العالميتين وبخاصَّة على العالم العربيّ.ولايفوتنَّك كلمة( أُولَد)المشعِرة بالحيَاة والأمل .
___________________________
نُشرت هذه الدراسة في الملفّ الثقافيّ بجريدة الصّحافة العدد(4724)بتاريخ الثلاثاء 7رجب1427هـ،الموافق للأوّل من أغسطس آب 2006م..وقد أضفت لها بعض التوضيحات هنا إزالة للإبهام في المقارنة بين كافكا والبياتي الّذي نُشر حينها.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق